فصل: الطرف الأول: في الموصى به.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الركن الثالث: السيد:

وشرطه أن يكون مكلفًًا أهلاً للتصرف ولا يشترط أن يكون أهلاً للتبرع. فتجوز كتابة القيم لعبد الطفل. وإذا كاتب المريض عبده بغير محاباة صح، كالبيع. وقيل: هو كالعتق، فيخير الورثة بين إمضاء الكتابة وبين عتق ما حمل الثلث منه إن قصر عن قيمته. وقيل: إن كانت محاباة كان كذلك، وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض اعتبرنا خروج الأقل من الثلث. فإن كانت قيمة الرقبة أقل اعتبر خروجها من الثلث. وإن كانت النجوم أقل فليس لهم اعتبار سواها. وكذلك لو أوصى بإعتاقه أو وضع النجوم عنه. ولو اقر في المرض بقبض نجوم من كاتبه في الصحة جاز إقراره إن ترك ولدًا ولم يتهم، فإن ترك كلالة، والثلث لا يحمله، لم يصدق إلا بينة، وإن حمله صدق كما لو أعتقه.
وقال غير ابن القاسم: لا يصدق وإن حمله الثلث إذا ورث كلالة إذ لم يرد به ثلثًا، وقاله ابن القاسم أيضًا.
والكافر تصح كتابته إلا أن يكون اشترى عبدًا مسلمًا فكاتبه فلا تصح كتابته، على إحدى الروايتين، بل يفسخ العقد. ولو كاتب عبدًا كافرًا ثم أسلم العبد بيعت الكتابة من مسلم.

.الركن الرابع: العبد:

وله شرطان:
الشرط الأول: أن يكون قويًا على الأداء، واختلف في الصغير الضعيف عن الأداء إذا لم يكن له مال، فقال ابن القاسم: لا بأس أن يكاتب.
وقال أشهب: إن كاتب فسخت كتابته، إلا أن يفوت بالأداء، أو يكون له مال يؤدي منه فيؤدي عنه ويعتق. وكذلك الأمة التي لا صنعة لها. رواه محمد عنها.
وإذا فرعنا على قول أشهب في منع الصغير من الكتابة، فقد روى الدمياطي عن أشهب: أن ابن عشر سنين لا تجوز كتابته قال القاضي أبو الوليد: وهي حد بين الصغير والكبير في الضرب على الصلاة والتفريق في المضاجع، لقوته على العمل والانفراد. فمن زاد عليها زيادة بينة احتمل أن يجيز أشهب كتابته لقوته على العمل والسعاية.
الشرط الثاني: أن يكاتب العبد كله، فلو كاتب نصف عبده لم يصح. ولو كاتب من نصفه جزء جاز لحصول الاستقلال. ولو كاتب أحد الشريكين لم يصح وإن أذن شريكه. ولو كاتباه على مال واحد جاز، وانقسمت النجوم على قدر ملكيهما. فإن شرطًا تفاوتًا في القسمة فقد انفردت كل صفقة فلا تصح، وإن كانت بإذن الشريك.
هذا بيان ما يصح من الكتابة. ثم الفاسد يساوي الصحيح في أنه يحصل العتق بالأداء، ويفارقه في أنه إذا أخذ ما علق به الأداء رده، إن كان مما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير والميتة، ورجع على العبد بالقيمة لفساد العوض.

.النظر الثاني: في أحكامها:

وهي خمسة:

.الحكم الأول: ما يحصل به العتق:

وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن يحصل في الصحة بأداء النجوم وبالإبراء وبالاعتياض. ولا يحصل بجزء من النجوم جزء من الحرية حتى يؤدي الكل.
ولو كاتب عبدين دفعة واحدة، لم يعتق أحدهما بأداء نصيبه قبل أداء الثاني، لأنهما حميلان.
وكذلك لو كاتب الشريكان عبدًا، لم يعتق نصيب أحدهما ما لم يؤد جميع النجوم إليهما.
المسألة الثانية: إذا كاتبا عبدًا ثم أعتق أحدهما نصيبه، فمحمله محمل وضع المال، لأنه انعقد لشريكه عقد عتق، فلا ينقل عنه ما عقد من معاني الولاء بالتقويم. قال ابن سحنون عن أبيه: أخبرني بعض أصحابنا عن مالك أنه قال: فيمن أعتق نصف مكاتبه: إنه وضيعة، إلا أن يريد العتق ويعمد له فهو كذلك.
وفي كتاب محمد: في من قال لعبده: نصفك حر إن كلمت فلانًا فكاتبه، ثم كلم فلانًا، فليوضع عنه نصف ما بقي من الكتابة يوم حنث، فإن عجز رق كله ولا يلزمه حنث.
المسألة الثالثة: إذا قبض العبد الموصوف الذي كاتبه عليه فوجده معيبًا اتبعه يمثله ولا يرد عتقه. ولو كان بعينه رجع بقيمته ولم يرد العتق.
المسألة الرابعة: إذا قاطعه على عبد فاعترف مسروقًا، رجع على المكاتب بقيمة العبد، فإن لم يكن له مال عاد مكاتبًا، عند ابن نافع.
وقال أشهب: لا يعود مكاتبًا إذا تمت حريته ويتبع بذلك. قال مالك: وإن قاطعه على وديعة أودعت عنده فاعترفت، رد عتقه. قال ابن القاسم وغيره: إن غره بما لم يتقدم له فيه شبهة ملك رد عتقه، وإن تقدمت له فيه شبهة ملك مضى عتقه وأتبع بقيمة ذلك العوض.

.الحكم الثاني: حكم الأداء:

وفيه سبع مسائل:
المسألة الأولى: إنه يندب إلى الإيتاء بحط شيء من آخر النجوم ولا يجب عليه.
المسألة الثانية: لو عجل النجوم قبل المحل أجبر السيد على القبول، إذ الأجل حق للمكاتب لا عليه، كما تقدم. فإن كان السيد غائبًا ولا وكيل له دفع ذلك إلى الأمام ونفذ له عتقه. وإن كان السيد شرط عليه مع الكتابة سفرًا أو خدمة فعجل الكتابة فهل يسقط عنه ما شرط عليه أم لا؟، فيها روايتان. وإذا فرعنا على عدم السقوط فما الذي يلزمه؟ روايتان، أيضًا، إحداهما: أنه يؤديه بعينه. والأخرى أنه يؤدي قيمته. ومن الأصحاب من يقول: إن كان خدمة أو منفعة سقطت، وإن كان نوعًا آخر من المال لزم ولم يسقط.
فرع:
ولو قال السيد للمكاتب: إن عجلت بعض النجوم فقد أبرأتك عن الباقي، فعجل، صح الإبراء والعتق. ولو عجل البعض بشرط الإبراء صح الأداء وعتق أيضًا.
وكذلك له أن يفسخ ما على المكاتب من عرض أو عين، حل أو لم يحل، في عرض مخالف للعرض الذي عليه أو من صفته، ولا بأس أن يؤخره ويزيده، أو أن يفسخ الدنانير التي عليه في دراهم إلى أجل، ويعجل عتقه، بخلاف البيوع إذ الكتابة ليست بدين ثابت يحاص به الغرماء.
المسألة الثالثة: لتعذر النجوم أسباب أربعة:
السبب الأول: العجز، فإذا عجز عن أداء النجوم، أو عن أداء نجم منها رق، وفسخت الكتابة بعد أن يتلوم له الإمام بعد الأجل. ويجتهد الإمام في أمر التلوم فيمن يرجى له دون من لا يرجى له.
السبب الثاني: إذا غاب وقت المحل بغير إذن السيد فله الفسخ عند السلطان. وكذلك لو شرط عليه: إنك إن عجزت عن نجم من نجومك فأنت رقيق، لم يكن عاجزًا إلا عند السلطان، والشرط في ذلك باطل.
السبب الثالث: إن امتنع مع القدرة لم يكن له الفسخ وأخذ النجم ما له. إذ ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر.
وقال ابن كنانة وابن نافع: له أن يعجز نفسه وإن كان له مال ظاهر. فأما إذا لم يكن له مال ظاهر فله تعجيز نفسه.
وقال سحنون: لا يجوز تعجيزه إلا عند السلطان.
ولو أراد السيد تعجيزه، ولم يرد هو ذلك وقال: أنا أودي، فليس للسيد ذلك إلا عند السلطان.
السبب الرابع: الموت. وتنفسخ الكتابة بموت العبد وإن خلف وفاء، إلا أن يكون معه من يقوم بها من ولد دخل معه فيها بالشرط أو بمقتضى العقد، فيؤدي الكتابة حالة إن ترك وفاء، ثم له ما بقي إرثاً دون سائر ولده الأحرار والذين لم يدخلوا معه في كتابته من العبيد. وروي: أنه يرثه من يعتق على الحر، وهم الآباء والأبناء والإخوة في مشهور المذهب. وروي أيضًا، أنه يرثه كل من يرث الأحرار.
قال محمد: وآخر قول مالك: إن الزوجة لا ترثه، ولكنها تعتق في ما ترك. وكذلك روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، أنها لا ترثه ولا يرثها، ولا يرجع أحدهما على الآخر بما أدى عنه في الكتابة. وهذا كله ففي من كان معه في الكتابة أو ولد له فيها وإن لم تعقد عليه. فأما من لم يكن معه في الكتابة فلا يرث من هذا المال شيئا، حرًا كان أو عبدًا، ولدًا كان أو غيره، لأن المكاتب مات مكاتبًا لا حرًا ولا عبدً. فإن لم يترك وفاء، وقوي ولده على السعي، سعوًا وأدوا باقي الكتابة. وإن كانوا صغارًا أدى عنهم إن كان في المال وفاء، وإلا تجر لهم فيه وأدى على نجومه إلى بلوغهم، فإن قووا على السعي وإلا رقوا.
المسألة الرابعة: في ازدحام الديون والنجوم ولا يحاص السيد غرماء المكاتب بالكتابة أو بالقطاعة في موت أو فلس، وأهل ديون المكاتب أولى من السيد في محل النجم. ثم للسيد تعجيزه بذلك أو تأخيره، ولو أدى كتابته وعتق، ثم أراد غرماؤه رد ذلك، فإن علم أن ما دفع من أموالهم فلهم أخذه ويرجع رقا، وإن لم يعلم ذلك مضى عتقه ولا طلب على سيده.
المسألة الخامسة: إذا كاتبا عبدًا فليس لأحدهما أن يفرد بقبض نصيب نفسه لأن كل ما في يد العبد كالمشترك بينهما. ولو شرطا أن يكون لكل واحد أن يقبض دون صاحبه كان الشرط فاسدًا. ولو عقدا الكتابة مفترقين فسدت، وإن كانت متساوية في العدد والنجوم. فإن نزلت فابن القاسم يفسخها، وغيره بمضيها، ويسقط الشرط فيكون اقتضاؤهما واحدًا.
وقد قال ابن القاسم: إنه إذا شرط أن يصيب مكاتبته، أو استثنى ما في بطنها، أن الكتابة ماضية والشرط باطل، فأما إن رضي أحدهما بتقديم الآخر على قبض نصيبه فذلك جائز.
ثم إن عجز العبد أتبعه شريكه بحصته مما قبض. ولا يجوز أن يقاطعه أحدهما دون الآخر، فإن أذن له فقاطعه من عشرين مؤجلة، هي حصته، على عشرة معجلة، ثم مات المكاتب عن مال، فللآخر أن يأخذ منه جميع ما بقي له من الكتابة بغير حطيطة، حلت أو لم تحل، ثم يقتسمان ما بقي. ولو عجز قبل أن يقبض هذا مثل ما أخذ المقاطع، خير المقاطع بين رد ما فضل به شريكه إليه ويعود العبد بينهما، وبين إسلام حصته من العبد إلى شريكه رقا.
قال محمد: ولو اقتضى مثل ما أخذ المقاطع فأكثر، ثم عجز المكاتب، وقد قاطع بإذن شريكه، فلا رجوع للمقاطع عليه. ولو مات المكاتب ولم يدع شيئا لم يرجع على المقاطع بشيء. ولو ترك شيئا أخذ منه الذي لم يقاطع ما بقي له، وقسما ما بقي. ولو بقي للمقاطع شيء لتحاصا فيه بما بقي لكل واحد. قال: ولو قاطعه بغير إذن شريكه، ثم عجز أو مات، وقد استوفى الآخر مثل ما أخذ المقاطع، أو ترك المكاتب الميت ما يأخذ منه الآخر ما بقي له أو مثل ما أخذ المقاطع، فلا حجة له، لا يختلف في ذلك ابن القاسم وأشهب.
فرع:
لو ادعى أنه وفاهما النجوم، فصدق أحدهما وكذب الآخر وحلف، فله أن يشارك المصدق فيما أقر بقبضه، ولو أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، ثم لا تراجع بين المصدق والمكاتب بما يأخذه المكذب من أحدهما، إذ موجب قولهما أنه ظالم.
المسألة السادسة: في مكاتبة الجماعة. ولا بأس بمكاتبة السيد عبيده في كتابة واحدة، ثم كل واحد منهم ضامن عن بقيتهم وإن لم يشترط ذلك، بخلاف حمالة الديون. ولا يعتق أحد منهم إلا بأداء الجميع، وللسيد أخذهم بذلك، فإن لم يجد فله أخذ الملي منهم بالجميع، ولا يوضع عنهم شيء لموت أحدهم. وإن أدى أحدهم عن بقيتهم رجع من عتقوا بأدائه على بقيتهم على الحصص، بقدر قسمة الكتابة عليهم بقدر قوة كل واحد منهم على الأداء يوم الكتابة، لا على قيمة رقبته، ولا يرجع من يعتق عليه منهم لو ملكه بشيء، لأنه افتكه من الرق، فكان ذلك كالشراء. وإن أدى أحدهم الكتابة حالة رجع بها على النجوم.
وأما عبد لك وبعد لغيرك فلا يجوز لكما جمعهما في كتابة واحد لغرر الحمالة.
ولو أعتق السيد أحد العبيد ممن له قوة على الكسب، لم يتم عتقه إلا بإجازة معه في الكتابة، إذا كان المجيز قويًا على السعاية، ويوضع عنه حصة المعتق ويسعى فيما بقي. وله عتق من أزمن منهم ثم لا يوضع عمن بقي بسببه شيء.
المسألة السابعة: في النزاع، وله صور:
أحداها: أن يختلف السيد والعبد في أصل الكتابة أو أصل الأداء، فالقول قول السيد. وثبت دعوى العبد بشاهد وامرأتين في الأداء، ولا تثبت دعوى الكتابة بذلك، ولكن تثبت دعوى قبض النجم الأخير، وإن تعلق به العتق، كما تقدم.
الصورة الثانية: إن تنازعا في قدر النجوم أو جنسها أو أجلها، فقال ابن القاسم: القول قول المكاتب، لا، العتق قد حصل بالاتفاق وهو مدعى عليه. وروى محمد بن عبد الحكم عن أشهب: أنه يرى أن القول قول السيد، قال: والحجة له أن يقول: هو مملوكي، ولا يخرج إلى الكتابة إلا بما أقر له به.
الصورة الثالثة إذا مات المكاتب وله ولد من معتقه، فقال السيد: عتق قبل الموت وجر إلي ولاء ولده، فالقول قول الأم، لأن الأصل بقاء الولاء لهم.

.الحكم الثالث: حكم التصرفات:

إما من السيد، وإما من العبد. أما السيد، فلا يصح له بيع رقبة المكاتب، ولا انتزاع ماله، لكن يبيع كتابته ويبقى مكاتبًا، فإن وفي كتابته لمشتريها عتق وولاؤه لعاقدها، وإن عجز استرقه مشتريها. ويشترط في الثمن التعجيل، والمخالفة لجنس ما عقدت الكتابة به، فإن كانت ذهباً أو ورقًا فبعرض، وإن كانت عروضًا فبذهب أو ورق، أو بعرض مخالف لها. هذا حكم الأجنبي.
أما السيد فيصح أن ينقله إلى أي عوض اتفقا عليه، ولا يجوز بيع نجم من نجومها، وفي بيع الجزء منها روايتان، إحداهما: المنع. والأخرى: الجواز.
ولو أوصى بالنجوم حاز من الثلث، وليس للوارث تعجيزه. ولو أوصى بكتابته لرجل، وأوصى بعنقه دخل في الثلث الأقل من قيمة رقبته أو قيمة كتابه.
وقال بعض الرواة: الأقل من قيمة الرقبة أو الكتابة.
أما تصرفات المكاتب، فهو فيها كالحر، إلا ما فيه تبرع أو خطر، فال ينفذ عتقه، وهبته وشراؤه قريبة أو بالمحاباة وبيعه بالغبن، وله أن يكاتب على وجه النظر، ولا يتزوج بغير إذن سيده، وله التسرر من غير إذنه. ثم إن حملت منه أمته وعتق كانت له أم ولد بذلك الحمل. ويرى أنها لا تكون له أم ولد به. والمكاتبة لا تزوج. وكل ذلك لو جرى بإذن السيد جاز. ولا يكفر المكاتب إلا بالصيام. وليس للمكاتب السفر البعيد الذي يحل عليه فيه نجم إلا بإذنه. ولو اشترى المكاتب من يعتق على سيده صح، فإن عجز رجع إلى السيد وعتق عليه.

.الحكم الرابع: حكم الولد:

وتسري الكتابة من المكاتبة إلى ولدها الذي تلده بعد الكتابة من زنى أو نكاح. وكذلك ولد المكاتب الذين حدثوا من أمته بعد عقد كتابته يتبعونه كماله، دون من كان قبل عقد الكتابة لولادة أو حمل أو من زوجة، إلا أن يشترطهم معه في كتابته فيعتقون بعتقه.
فرع:
إذا وطئ السيد مكاتبته فقد تعدى، ولا حد عليه، ويعاقب إن لم يعذر بجهل، ولا يجب المهر ولا ما نقصها إن طاوعت. وإن أكرهها فعليه ما نقصها. وهي بعد وطء السيد على كتابتها. فإن حملت خيرت في التعجيز، وتكون أم ولد، أو البقاء على كتابتها، فإن اختارت التعجيز ولم يكن معها أحد في الكتابة أو كان معها أقوياء فرضوا حط عنهم حصتها من الكتابة، وكانت أم ولد، وإن اختارت البقاء على كتابتها فهي مستولدة ومكاتبة، ونفقة حملها على سيدها، كالمبتوتة، ثم إن أدت النجوم عتقت، وإلا عتقت بموت السيد.

.الحكم الخامس: حكم الجناية:

وإذا جنى المكاتب على أجنبي أو على سيده لزمه الأرش، فإن أداه بقي على كتابته، وإن عجز عنه رق، ثم يخير سيده، إن كانت الجناية على أجنبي، بين إسلامه أو فكاكه بالأرض. ولو جنى عبد من عبيد المكاتب فله فداؤه على وجه النظر. ولو أعتق السيد مكاتبه بعد الجناية لزمه الفداء. ولو قتل المكاتب انفسخت الكتابة، وللسيد القيمة على أنه عبد مكاتب في قوة مثله على الأداء وصفته.

.كتاب أمهات الأولاد:

والنظر فيما تصير به الأمة فراشًا، وفيما تكون به أم ولد، وفي أحكامها بعد الاستيلاد.

.النظر الأول: فيما تصير به الأمة فراشاً:

وذلك بالإقرار بالوطء. فمن أقر بوطئ أمته صارت له فراشًا، ولحق به ما أتت به من ولد لمدة لا تنقص عن ستة أشهر ولا تزيد على أكثر مدة الحمل. وسواء أتت به في حياته أو بعد وفاته أو بعد أن أعتقها، إلا أن يدعي استبراء يطأها بعده فيصدق ولا يلحقه الولد. ولو ادعت أنها حملت منه بعد الاستبراء لأنه وطئها بعده، وأنكرها فطلبت يمينه لم يكن لها تحليفه أنه ما وطئها بعد الاستبراء.
وقال المغيرة: إذا أقر بوطئها لم يزل الولد من فراشه إن أتت به، إلا أن يقول: إنه استبرأها بثلاث حيض، ويحلف على ذلك.
قال سحنون: أصحابنا كلهم يقولون: يجزيه من الاستبراء حيضة، ولا يلزمه في ذلك يمين.
قال الشيخ أبو محمد: لو أتت بالولد بعد الإقرار بالوطء لمدة تزيد على أكثر مدة الحمل، فهذه أولى أن لا يلحق من صورة دعوى الاستبراء. وكذا في الولد الثاني الذي لا يمكن إلا من وطئ آخر، وكأن هذا يرجع إلى أنها تصير فراشًا بمجرد الإقرار.
ولو ادعى العزل لم يندفع عنه لحوق الولد، ولو أقر بإتيانها في غير المأتي، كالدبر وبين الفخذين، مع الإنزال لحق به الولد.

.النظر الثاني: فيما تكون به أم ولد:

ومن استفرش أمته فأتت منه بولد حي أو ميت، مخلق أو غير مخلق مما يقول النساء: إنه منتقل في أطوار الخلقة كالعلقة والمضغة، فهي بذلك أم ولد. وكذلك لو ادعت أنها أسقطت، ورأى النساء عليها أثر ذلك.
ومن أقر في مرضه يحمل أمته، وبولد أمة له أخرى، وبوطء أمة ثالثة لم يدع استبراءها فأتت بولد يشبه أن يكون من وطئه، أولادهن أجمع لاحقون به، وهن أمهات أولاد له.
ومن قال في أمته: هذه ولدت مني ولا ولد معها، فإن كان ورثته ولده صدق، وعتقت من رأس المال، وإن لم يترك ولدًا لم يصدق ورقت، إلا أن يكون معها ولد أو بينة تثبت. وروي أيضًا: لا تعتق وإن ورثه ولده إذا لم يكن معها ولد كقوله: أعتقتها في صحتي، فإنها لا تعتق في ثلث ولا رأس مال، وعلى هذا أكثر الرواة.
ولو نكح جارية فولدت ولدًا رقيقًا، ثم اشتراها لم تصر بذلك أم ولد. وكذلك لو ولدت منه ولدًا حرًا في نكاح غرور أو وطء شبهة، ثم اشتراها، لم تصر بذلك أم ولد له. أما إذا اشترى زوجته حاملاً منه فولدت عنده، فإنها تصير بذلك أم ولد له، على الرواية المشهورة.

.النظر الثالث: في أحكامها:

وإذا صارت الأمة أم ولد تثبت لها حرمة تمنع من بيعها وهبتها وإجارتها وإسلامها في جناية، بل يفكها سيدها بالأقل من أرش الجناية يومها، أو قيمة رقبتها يوم الحكم. وكذلك لو غنمها المسلمون من يد العدو وقد كان سباها، فإن سيدها يجبر على فدائها بجميع ما وقعت به في القسم، وإن كان فقيرًا أتبع به دينًا.
وقال المغيرة: يفتديها بالأقل من قيمتها أو مما وقعت به في القسم كالجناية، ولا يجزيه عتقها عن سبب موجب للعتق، ولا يبقى لسيدها فيها سوى الاستمتاع وما يقرب من الاستخدام الذي لا يشق مثله، فإذا مات عتقت عليه من رأس ماله لا يردها دين كان قبل حملها أو بعده، وولدها بعد الاستيلاد دون من ولدت قبله، أعني من غير سيدها حكمهم حكمها، إلا في الاستمتاع والخدمة، فلا يحل له الاستمتاع بمن هو محل له من ولدها، وله استخدام ولدها، ثم يعتقون بموته. وما جني عليها أو على ولدها فأرش الجناية له. وكذلك القيمة في جناية القتل فيها وفيهم له، واختلف في إنكاحه لها بغير رضاها. ثم حيث صححنا أو رضيت فهو مكروه للدناءة.
فروع:
الفرع الأول: إذا باع أم ولده فسخ بيعه وإن أعتقها المشتري، ولو ماتت قبل ذلك لكانت مصيبتها من البائع.
لثاني: لو حني عليها فمات سيدها قبل قبض الأرش من الجاني، فهل يكون له فيورث عنه، أو يتبعها كمالها؟ في ذلك روايتان.
الفرع الثالث:
إذا وطئ الأمة أحد الشريكين فحملت، فإن كان موسرًا غرم نصف قيمتها يوم الحمل، وإن كان معسرا قومت عليه وأتبعه بنصف قيمتها إن شاء الشريك، أو بيع ذلك النصف المقوم فيما يجب عليه من القيمة، ويتبعه بنصف قيمة الولد.
الفرع الرابع:
إذا وطئها جميعًا فحملت، فادعى كل واحد منهما أنه منه، فلتدع لها القافة فبأيما ألحقته كان ابنا له، وكانت الأمة أم ولد له، مسلمًا كان أو ذميًا، حرًا أو عبدًا فإن أشركهما القافة فيه وإلى إذا كبر أيهما شاء، عند ابن القاسم، ثم لا يكون إلا مسلمًا. وكذلك في وطء البائع والمشتري في طهر واحد، فإن مات قبل الموالاة فهو ابن لهما.
وقال مطرف وابن الماجشون وابن نافع: يلحق بأنصحهما شبهًا، ولا يترك وموالاة من أحب.
وقال محمد بن مسلمة: إن عرف الأول منهما لحق به، لأنه كان حملاً قبل أن يصيبها الآخر، وإنما إذا ولد غيره قال: وإن جهل الأول لحق بأكثرهما شبهًا فيما يرى من الرأس والصدر لأنه الغالب. وحكي عن سحنون قول رابع: إنه يبقى ابنًا لهما جميعًا، ولا يوالي أحدًا.

.كتاب الوصايا:

وفيه أربعة أبواب:

.الباب الأول: في أركانها:

وهي أربعة:

.الركن الأول: الموصي.

وتصح الوصية من كل حر مميز مالك، ولا تصح من العبد ولا من المجنون والصبي الذي لا يميز. وتصح من السفيه المبذر، إذ لا يخاف عليه الفقر بعد موته. وتصح وصية المميز إذا كان يعقل وجه القرب وأصاب وجه الوصية. وذلك بأن لا يكون فيها اختلاط. والكافر تنفذ وصيته، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم. ولا تنفذ وصية المرتد وإن تقدمت على حال ردته.

.الركن الثاني: الموصى له:

وتصح الوصية لكل من يتصور له الملك، فلو أوصى لحمل امرأة فانفصل حيًا صحت الوصية. ولو أسقطته بعد موت الموصي ولم يستهل صارخًا بطلب الوصية. ولو أوصى لحمل سيكون صح، وهو ظاهر إطلاق القاضي أبي محمد. وتصح الوصية للعبد. ثم الموصي به له دون سيده، إلى أن ينتزعه منه، ولا يفتقر في القبول إلى إذن سيده، فإن كان عبد وارث فلا تصح الوصية له إلا باليسير التافه، كالثوب والدينار وشبه ذلك مما يرى أنه نحا به ناحية العبد.
ومن أوصى لعبده بثلث ماله، والثلث بحمل رقبته، عتق كله عند ابن القاسم، لأن ثلثه معتق بملكه له بالوصية له به، وملك ثلث التركة، يقوم عليه ثلثاه فيما يملكه من المال، فإن بقي من الثلث بقية أخذها. ولو كان الثلث لا يحمل رقبته، فعجز ما بقي له من الثلث عن تتمة ثلثيه، فعند ابن القاسم: تقوم بقيته في ماله، إن كان له مال، وعند ابن وهب: لا يقوم في ماله، ويرق البقية منه.
وقال المغيرة: لا يعتق إلا ثلثه فقط، لا، ما ملك من ثلث نفسه لا يقدر على رده فأشبه الميراث، وبقية الثلث مال له فأشبه من ورث بعض من يعتق عليه لأنه لا تقوم عليه البقية.
وقال عبد الملك: يعتق ثلثه في نفسه، ويستتم عتقه فيما أوصى له من بقية ماله، ويبدأ على الوصايا إلى تمام رقبته وما فضل يعاول له به.
وتصح الوصية لأم الولد والمكاتب والمدبر إن عتق من الثلث، وإلا فلا لأنه عبد وارث. أما المسجد والقنطرة والجسر وما أشبه ذلك، وإن لم تملك فالوصية لها صحيحة، إذ هي منزلة على الصرف في مصالحها، لأنا نعلم أنه لم يرد بها التمليك فصار كالوقف عليها.
وكذلك لوصية للميت، إذا أوصى له بعد العلم بموته، فإنها تصح له، فإن كان عليه دين صرفت الوصية فيه.
وكذلك إن كانت كفارات أو زكوات قد وجبت، فإن لم يكن شيء من ذلك كانت لورثته، لأن هذا قصد الموصي بها. وتصح الوصية للذمي. قال القاضي أبو الحسن: وتكره للحربي عندي.
وتصح الوصية للقائل، إذا أوصى له بعد علمه بأن قاتله، أعني إذا كان بعد جريان سبب القتل وعلم أنه فاعله. أما لو لم يعلم أنه القاتل، ففي صحتها خلاف.
وأما إن أوصى له، فقتله بعد الوصية عمدًا مجهزًا، فإن الوصية تبطل. وإن كان القتل خطأ نفذت من المال دون الدية. ولو ترامى الموت عن سببه، وعلم تعمده لقتله ولم يغير الوصية لكان ذلك رضا بتماديها.
وتصح الوصية للوارث، وتقف على إجازة باقي الورثة وردهم، فإن ردوها رجعت ميراثًا، وإن أجازها نفذت. ثم اختلف، بعد تنفيذها بإجازتهم، هل ذلك تنفيذ لفعل الموصي، أو ابتداء عطية منهم؟، والأول هو الذي نقله القضاة الثلاثة عن المذهب أبو الحسن وأبو محمد وأبو الوليد.
ورأى أبو الحسن اللخمي أن الثاني هو مقتضى قول ابن القاسم.
ومن أوصى لوارثه بشيء وقال: إن لم تجزه الورثة فهو في المساكين أو في نوع من سبل البر، فلم تجزه الورثة، كان مردودًا ميراثًا. وإن أجازوه للوارث جاز في رواية ابن أبي أويس. وروى ابن القاسم أنها مردودة على كل حال وإن أجازها.
ولو قال: عبدي حر، وثلث مالي في السبيل إلا أن يجيزه الورثة لابني، فهذا يجوز على ما قال عبد الملك وابن وهب وابن القاسم وابن كنانة وابن نافع، وهو قول المدنيين. قال أصبغ: وأنا أقول به استحسانًا واتباعًا للعلماء. وأما القياس فهو كالأول.
وقال أشهب: لا يجوز، وهو من الضرر كالأول. وفرق الأولون بأنه في الصورة الثانية باشر الحرية ورجوعه إلى الوارث من قبل الورثة، وفي الأولى باشر بالوصية تصييره إلى المواريث.
فروع:
الفرع الأول: إن إجازة الورثة بعد موت الموصي صحيحة نافذة، فإن أجازوا قبله في الصحة لسبب، كخروجه للغزو أو السفر، لزمهم ذلك في رواية ابن القاسم وقوله، كالمريض.
وقال أصبغ: قال لي ابن وهب: كنت أقول هذا، ثم رجعت إلى أن لا يلزمهم ذلك لأنه صحيح. قال أصبغ: وهو الصواب.
وإن كان لغير سبب وصية فلا يلزمهم، لأنها حالة لم تتعلق حقوقهم فيها بالتركة.
وإن أجازوا في المرض، فإن تخللت بينه وبين الموت صحة فلا تلزمهم الإجازة.
قال ابن كنانة: وتلزمهم اليمين أنهم ما سكنوا رضا بذلك. وإن لم يتخلل بين الإذن والوفاة وقت صحة لزمهم ذلك.
قال القاضي أب محمد: وذلك في المرض المخوف. قال: وإنما يلزمهم إذا كان طوعًا لا خوفًا من إضرار بهم، مثل أن يكون الوارث في عيال الموصي ونفقته، فيخاف، إن لم يأذن له، قطع به، أو يكون له عليه دين يلزمه به، أو يكون سلطانًا يرهبه، أو ما أشبهه ذلك، فمتى كان الإذن على بعض هذه الوجوه لم يلزمهم وكان لهم الرجوع.
وروي عن عبد الملك: أن الإجازة لا تلزمهم إلا بعد موت الموصي.
الفرع الثاني:
لو أجاز الورثة الوصية لوارث، ثم قام بعضهم فقال: لم أعلم أن الوصية لا تجوز، حلف أنه ما علم، وكان له نصيبه، إذا كان مثله يجهل ذلك.
الفرع الثالث:
من أوصى أن يباع عبده من فلان نفذ، فلان أبى فلان إلا بوضيعة ثلث قيمة العبد، وضعت له إن حملها الثلث ولو أبى أن يشتريه بوضيعة الثلث لقطع له بثلثه، عند ابن القاسم.
وقال غيره: لا شيء له.
الفرع الرابع:
إذا أوصى لوارث فحجب عن ميراثه، أو أوصى لغير وارث فصار وارثًا، فالاعتبار بالمال لا بحال الوصية، فتصح وصية الأول دون الثاني، هذا إن كان الموصي عالمًا بتغير حال الوارث إلى الحجب، فإن لم يعلم، ففي صحة الوصية وبطلانها قولان لأشهب وابن القاسم.

.الركن الثالث: الموصي به.

وتصح الوصية بكل مقصود يقبل النقل، ولا يشترط كونه موجودا أو عينًا، بل تصح الوصية بالحمل وبثمرة الشجرة والمنفعة، ولا كونه معلومًا أو مقدوراً عليه، بل تصح بالحمل كما تقدم، وتصح بالمغصوب وبالمجاهيل، ولا كونه معينًا إذ تصح بأحد العبيد. ولا تصح بما لا يجوز تملكه كالخمر والخنزير.
وينبغي أن لا يكون الموصي به زائدًا على ثلث المال الموجودعند الموت، ثم هل ذلك مطلوب للصحة أو للنفوذ؟، يخرج على القولين المتقدمين، هل هي إجازة الوارث ابتداء عطية أو تنفيذ للوصية؟
فرع:
من لا وارث له إذا أوصى بجميع ماله بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، وحكى الطابثي في كتاب اللمع عن بعض أصحابنا جواز الوصية بالجميع.
ومنشأ الخلاف: هل بيت المال وارث أو إنما يصرف المال إليه لأنه مال ضائع، لا لتعلق حق بيت المال به؟
وثمرته: معرفة الحكم في ثلاثة فروع، هذا أحدها.
وثانيها: صرف المال إليه أو إلى ذوي الأرحام.
وثالثها: هل يرد إليه ما فضل عن ذوي السهام أو يرد عليهم؟
قال الأستاذ أبو بكر عقب كلامه في هذه المسألة: هذا كله إذا كان للمسلمين بيت مال. فإن لم يكن لهم بيت مال صحت الوصية له على كل حال. قال: وقد قال بعض أصحابنا المتأخرين: يكون للموصي له بالمال ثلثه، وباقي ذلك للفقراء والمساكين.
قال الأستاذ: ورأيت لابن القاسم، في كتاب محمد، فيمن مات ولا وارث له، قال: يتصدق بما ترك، إلا أن يكون الوالي يخرجه في وجهه، مثل عمر بن عبد العزيز فيدفع إليه.
ولو أوصى نصراني بجميع ماله للكنيسة، فقال ابن القاسم: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله وثلثاه للمسلمين. ووجه ذلك أن الذمي إذا لم يكن له وارث كان ماله للمسلمين، فالحكم في تركته بين المسلمين وبين الناظر في الكنيسة، فيجرى على حكم الإسلام، فلا تجوز له وصية في أكثر من ثلثه.
وكل تبرع في مرض الموت فهو محسوب من الثلث وإن كان منجزًا. وكذلك إذا وهب في الصحة ثم أقبض في المرض. ومهما هجم عليه المرض المخوف حجرنا عليه في التبرعات في الزيادة على الثلث، فإن سلم تبينا الصحة. وإن لم يكن المرض مخوفًا لم يحجر. فإن قيل: وما المرض المخوف؟ قلنا: كل مرض لا يؤمن ترقية إلى الموت كثيرًا، كالحمى الحادة والسل والقولنج وذات الجنب والإسهال المتواتر مع قيام الدم، وشبه ذلك مما يقضي أهل صناعة الطب بأن الهلاك يسببه كثير.
وأما الجرب ووجع الضرس وحمى يوم ورمد العين والبرص والجنون وحمى الربع وشبه ذلك فليس بمخوف. ومهما أشكل شيء من ذلك حكم فيه يقول أهل المعرفة بالطب كما يحكم بقولهم في العيب.
وأما المفلوج والمجذوم فما كان من ذلك قد ألزمهم الفراش وأقعدهم فأحكامهم أحكام المرضى. وما كان من جذام يابس وفالج غير مقعد، وكان أصحابه يدخلون ويخرجون ويتصرفون، فأحكامهم أحكام الأصحاء.
فرع:
إذا ثبت أن المرض يعلق حق الورثة بالمال، ويقبض يد المريض عن التصرف فيه، وتحققنا أن سبب ذلك وعلته الخوف على المريض من المنية في الأكثر أو في الكثير، فإنه قد ينزل بالأصحاء أحوال تحقق فيهم هذه العلة، فيجب أن تكون أحكامهم كأحكام المرضى في تصرفهم على الثلث، وذلك كالحامل في أخريات أمرها كستة أشهر فأعل، وكالمحبوس للقتل في قصاص أو حد، وحاضر الزحف في ملتطم القتال والتعرف للحتف، ويلحق بهذه الأحوال عند ابن وهب وأشهب حال الملجج في البحر وقت الهول، فقالا حكمه في هذه الحالة حكم المريض ومن ذلك معه.
وقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح.
قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس، لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. فإن قيل: فما الذي يتعلق به الحجر؟ قلنا: هو ما زاد على قدر حاجته من الإنفاق في الأكل والكسوة والتداوي والعلاج، كشراء ما يحتاج إليه من الأشربة والأدوية وأجرة الطبيب، ويمنع ما سوى ذلك مما يخرج على غير بدل يحصل للورثة من هبة أو صدقة، ويكون ما فعل من ذلك موقوفًا على موته فينفذ من الثلث، وعلى صحته فينفذ على ما بينا. ولا يمنع من التصرف بالمعاوضة في التجارة لتي لا محاباة فيها كالبيع والشراء بثمن المثل. وكالإجارة والرهن والأخذ بالشفعة وما أشبه ذلك.
فأما قضاء الديون فمن رأس المال، أوصى بها أو لم يوص.
وأما الكفارات والزكوات المفرط فيها، فمن الثلث.
وإذا باع بثمن المثل نفذ من رأس المال، فإن كان فيه محاباة فقدر المحاباة من الثلث.
فإن نكح المريض ودخل فالصداق من الثلث أيضًا. وإن أجر دوابه وعبيده بأقل من أجرة المثل فالمحاباة من الثلث.
فإن قيل: كيف تحتسب من الثلث؟ قلنا: إن ضاق الثلث قدم آكدها على ما دونه، فيقدم المدير في الصحة على الزكاة المفرط فيها إن أوصى بها، إلا أن يعرف حلولها عليه، وأنه لم يخرجها فتكون من رأس ماله، ثم الرقبة المبتولة في المرض والمدبر في المرض معًا. ويقدم الواجب على التطوع. ويقدم عتق العبد المعين على المطلق، ثم المكاتب، ثم الحج، والرقبة بغير عينها.
قال أشهب: وزكاة الفطر بعد الزكاة المفروضة. واختلف في المدبر في الصحة وصداق المنكوحة في المرض المدخول بها فيه، فبدأ ابن القاسم بالمدبر لأنه ليس له أن يرجع عن تدبيره، فكذلك ليس له أن يدخل عليه ما يبدأ عليه، وبدأ عبد الملك بالصداق وقال: صداقها من الثلث مقام الدين من رأس المال.
واختلف أيضًا في الجزء والدنانير المسماة إذا ضاق عنها الثلث على ثلاث روايات:
التبدئة بالجزء، والتبدئة بالتسمية، والمحاصة بينهما، وبها قال ابن القاسم في المجموعة، واستدل سحنون عليها بأنه قد انتقض كل واحد منهما بما أدخل عليه من صاحبه.
واختلف في الوصية بعتق رقبة غير معينة، والوصية بدنانير أو دراهم لرجل، فقال ابن القاسم: يتحاصان.
وقال عبد الملك يبدأ العتق والذي ذكره عبد الملك في الترتيب: البداية بالمدبر في الصحة، ثم العتق البتل، ثم التدبير في المرض، ثم الزكاة، ثم الموصي له بالعتق. ثم الذي أوصى أن يشتري بعينه.
قال في الكتاب: وإنما ينظر في هذا إلى الأوكد فيقدم في الثلث، وإن تكلم به في آخر الوصايا، ولا ينظر إلى لفظه إلا أن يكون أوصى فقال: بدأوا كذا، ثم كذا، فإنه يبدأ بما قال. وإن كان الذي لم يبدأه الميت هو آكد، فإنه لا يقدم في الثلث، لا، الميت قد قدم غيره، وهذا قول مالك.
هذا حكم ما تأكد بعضه على بعض من الوصايا، فإن استوت في الرتبة تحاصوا، وإن كان فيها مجهول كوقود مصباح في مسجد على الدوام، أو سقي ماء، أو تفرقة خبز، ضرب لهذا المجهول بالثلث، ووقفت له حصته.
وقال ابن الماجشون: لو اجتمع عدة من هذا الجنس لضرب لها كلها بالمثلث، وكأنها لصنف واحد.
وفي المجموعة قال عبد الملك: ولو لم يوص بغير المجهولات قسم الثلث على عددها.
وقال أشهب: يضرب للمجهول بالمال كله. وإن أعتق عبيدًا وضاق المال أقرع بينهم.
فرع:
من أوصى بشيء من ماله بعينه، عينًا كان أو عرضًا، وله ديون وعروض وعقار وأموال غائبة، والعين الموصى بها قدر ثلث جميع المال أو أقل، بحيث تخرج الوصية من الجميع ولا تخرج مما حضر، فقال الورثة: لا نجيز ولا نعطيه هذا، لأنا لا نأمن أن يتلف رأس المال قبل قبضه وتحصيله فيفوز بالعين دوننا، فهم بالخيار بين أن يعطوه هذا الشيء بعينه ويبقى لهم باقي التركة بالغة ما بلغت، وبين أن يسلموا جميع ثلث مال الميت من حاضر وغائب وعين ودين، فيكون شريكًا لهم في جميع التركة، وإن كان ذلك أكثر قيمة من العين الموصى بها.
ثم هل يقطع بثلثه في جمع التركة أو في الشيء الموصي بعينه في ذلك روايتان.
فإن كانت التركة كلها حاضرة، وهي عروض كلها، فأوصى له بدنانير، فقال ابن القاسم: لا تخيير فيها، بل تباع عروضه وتعطى الدنانير. ولا يخلع له الثلث.
قال محمد: وهذا عندي كالعين الحاضرة، بخلال الدين والمال الغائب، قال: وهكذا لو ترك مائة دينار وعروضًا، وأوصى بمائة دينار، لعجلت له المائة ولا ينتظر بيع العروض.
قال أشهب: شواء كانت الدنانير معينة أو غير معينة. وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن لم يترك إلا ثلاثة أدوار وأرضا وأوصى لرجل بخمسة دنانير، يلزم الورثة أن يعطوه إياها، أو يقطعوا له بثلث الميت، ولا يبيع السلطان من دوره بخمسة دنانير، قال: وقاله مالك فيه وفي المال الغائب والمفترق.
ولو كان بعض التركة عروضًا وبعضها عينًا، فأوصى له بعرض معين يحمله الثلث، فروى علي بن زياد: ليس للورثة منعه من أخذه إلا فيما لا يسعه ثلثه أو يشكل هل يسمعه أم لا؟ فيتخيروا بين الإجازة أو القطع، وهكذا حكم هذه المسألة لو كانت التركة كلها عروضًا.
وإذا أنجز الكلام على تفاصيل هذه المسألة، وهي المعروفة يخلع الثلث، فدليلها هو أنه قد ثبت أنه ليس للموصي أن يوصي بأكثر من الثلث، وليس له أن يعين الثلث في نوع بعينه من التركة إلا بإذنهم، كما أنه ليس له أن يزيد على الثلث إلا بإذنهم، فإذا ثبت ذلك ثم خلف الميت ناضًا ألف دينار وعروضًا بمثلها وديونًا بمثلها وعقارًا بمثلها، فحقه من الثلث شائع في كل نوع منها، فليس له أن يفرد الوصية بالناض ويحيل الورثة على عروض وديون، فمتى فعل ذلك كان متعديًا آخذًا ما لبس له، فإذا لم يجز الورثة ذلك كان لهم الامتناع وإزالة الضرر بما لا يبخس الميت حقه، وليس إلا أحد هذين، إما ما قلناه أو يدفع إليه قيمة الألف من جميع التركة، وهذا القسم غير جائز لأن فيه بخس الميت حقه وإزالة تعد وضرر بمثله، وذلك لأنا قد علمنا أن للميت أن يوصي بجميع الثلث، فإذا عدل عن استيفاء الثلث إلى الوصية ببعضه وعينه في شيء بعينه، فإنما ترك الاستيفاء ليسلم له التعيين، فإذا لم يسلم له وجب رد تعديه إلى ما كان له لا إلى بعضه، لأنه لم يرد أن يؤخذ من غير هذه العين من التركة بعض الثلث، وإنما أراد أن تؤخذ نفس العين، ففي إعطاء قيمتها من غير تبديل الوصية، وذلك غير جائز، فإن قيل: في إعطائه جميع الثلث إعطاؤه ما لم يوص له به، قيل: جل إلى ذلك منع الورثة من أخذ ما أوصى له به وذلك غير ممتنع، إذ لا شيء يرجع إليه غيره.
ومن أوصى بعتق عبده، وله مال حاضر وغائب، ولا يخرج من ثلث الحاضر، فروى أشهب: أنه يوقف العبد لاجتماع المال، فيقوم إذا اجتمع ويعتق.
وقاله ابن القاسم. وهذا فيما يقبض إلى أشهر يسيرة أو عرض يباع، فأما ما يبعد جدًا وتبعد غيبته فليجعل العتق في ثلث ما حضر، ثم إذا قبض ما بقي أتم فيه.
قال محمد: وقال أشهب: بل للعبد أن يعجل منه عتق ثلث الحاضر حتى لو لم يحضر غيره لعجل عتق ثلث ويوقف باقيه، فكل ما حضر شيء من الغائب زيد فيه ثلث ذلك، حتى يتم أو ييئس من المال الغائب. قال: ولا أرى أن يوقف جميع العبد لاجتماع المال، وإن كان قد قاله لي مالك.
وقال سحنون: إنما يعجل منه ثلث ما حضر إذا كان في ذلك ضرر على الموصي والموصي له فيما يشتد وجه مطلبه ويعسر جمع المال ويطول ذلك.

.الركن الرابع: ما به تكون الوصية:

وتكون بالإيجاب، ولا يتعين له لفظ مخصوص، بل كل لفظ فهم منه قصد الوصية الوضع أو بالقرينة حصل لاكتفاء به، مثل قوله: أوصيت، أو أعطوه، أو جعلت له. ولو قال: هو له، وفهم من مراده بقرينة قصد الوصية فهو وصية.
ولو كتب بخطه وصيته فوجدت في تركته وعرف أنها خطه بشهادة عدلين، فلا يثبت شيء منها حتى يشهد عليها وقد يكتب ولا يعزم، رواه ابن القاسم في المجموعة والعتبية. قال محمد عن أشهب: ولو قرأها ولم يأمرهم بالشهادة فليس بشيء حتى يقول: إنها وصيتي، وإن ما فيها حق، وإن لم يقرأها، وكذلك لو قرأها وقالوا: أتشهد أنها وصيتك وأن ما فيها حق، فقال: نعم، أو قال برأسه: نعم، ولم يتكلم، فذلك جائز. قال محمد عن مالك: وإن لم يقرأها عليهم فليشهدوا أنها وصية أشهدنا على ما فيها.
والقبول شرط ولا أثر له في حياة الموصي، فإن الوصية إنما تجب بموت الموصي وقبول الموصي له بعده، ولا يشترط فيه الفور بعد الموت، فلو مات الموصى له بعد موت الموصي لانتقل حق القبول والملك إلى الوارث.
وقال الشيخ أبو بكر: الأشبه أن يكون لورثة الموصي، لا،ها على أصل ملك موروثهم إلى أن تخرج عنه بقبول الموصي له. قال القاضي أبو محمد: وكأن الأول أقيس. فأما إن أوصى للفقراء أو من لا يتعين فلا يشترط القبول.
وإذا مات الموصي كان الموصي به موقوفًا، فإن قبل تبينًا أن العين الموصى بها دخلت في ملكه بموت الموصي، وإن ردها تبينًا أنها لم تزل عن ملك الموصي.
ومن أصحابنا من يقول: إن العين الموصى بها باقية على حكم ملك الميت. وعلى هذا الخلاف تخرج أحكام الملك كصدقة الفطر إذا وجبت بعد الموت وقبل القبول.
وكما إذا أوصى له بزوجته الأمة فأولدها ثم علم، فقيل: ما حكم الولد، وهل تصير به الأمة أم ولد للموصي له أم لا؟
وكذلك حكم ما أفادته الأمة أو العبد بعد الموت من المال، وحكم الولد المستحدث بين الموت والقبول، وحكم ثمرة النخل والبساتين الحادثة بين الزمانين.
فرع:
إذا فرعنا على الغلات تبع للأصول، فاختلف في كيفية التقويم، فقيل: تقوم للأصول بغير غلات، فإن خرجت من الثلث اتبعتها ولا تقوم الغلات. وقيل: تقوم الأصول بغلاتها. قال أبو إسحاق التونسي: وكان هذا أشبه في الظاهر. وذلك أن نماء العبد يختلف فيه أنه إنما يقوم على هيئته يوم التقويم. وكذلكم ولد الأمة لم يذكر فيه اختلاف أنه يقوم معها كنماء أعضائها. قال وكذلك يجب أن يكون تقويم الغلات مع الرقاب لأنها كالنماء في الموصي به.

.الباب الثاني: في أحكام الوصية الصحيحة:

وهي تنقسم إلى لفظية ومعنوية وحسابية.
أما:

.(القسم الأول) اللفظية:

فلها طرفان:

.الطرف الأول: في الموصى به.

وإذا أوصى بجارية دون حملها صح. وكذلك بالحمل دونها يصح. وعند الإطلاق يتناول الحمل باسم الجارية.
ولو أوصى بقوس حمل على ما يرمي به النشاب دون قوس القذف والبندق، إلا إذا قال: قوس من قسي، ولم يكن له إلا قسي الندف إذ تعينت. وكذلك لو عينتها قرينة مع وجود غيرها.
ومن أوصى بشاة من ماله فالموصي له شريك بواحدة في عددها، ضأنها ومعزها، ذكورها وإناثها، صغارها وكبارها، فلو كانت مثلاً مائة لكان له جزء من مائة جزء من جملة غنمه، فإن هلكت كلها فلا شيء له. وإن لم يكن له غنم، فله في ماله قيمة شاة من وسط الغنم إن حملها ثلثه أو ما حمل منها. ولو قال: أعطوه شاة من غنمي، فمات ولا غنم له، فلا شيء للموصي له. ولو مات وليس له إلا شاة واحدة، صغيرة أو كبيرة، عالية أو دنية، فهي له إن خرجت من الثلث أو ما خرج منها. ولو قال: أعطوه ثلث غنمي، فله ثلثها، فإن مات منها شيء، فله ثلث ما بقي. ولو قال: أعطوه عددًا سماه، فكان مساويًا لثلث عدد الغنم، فهل يكون كقوله: أعطوه ثلثها، فيكون شريكًا بالثلث فيما زاد أو نقص، أو لا يكون كذلك، بل لو لم يبق إلا ذلك العدد لأخذه، فيكون شريكًا بالثلث فيما زاد أو نقص، أو لا يكون كذلك، بل لو لم يبق إلا ذلك العدد لأخذه، وإن بقي أكثر منه أخذ بحصة عدته، وأخذ الورثة بحصة ما زاد عليها؟ مثال ذلك. لو أوصى له بعشرة من غنمه، وعددها خمسون مثلاً، فعلى القول الأول: إن هلك بعضها فله خمس ما بقي منها، ولو زادت لكان له خمس الزيادة أيضًا، كما لو أوصى له بالخمس تصريحًا به وعلى القول الثاني: لو هلك منها مثلاً عشرة ضرب فيما بقي بالربع، وإن بقي ثلاثون أخذ ثلثها، وإن بقي عشرون أخذ نصفها، ولو لم يبق إلا عشرة لأخذها كيف كانت، أعلى أو أدنى أو متوسط، ولا ينظر إلى صفتها إذ تعينت إلا ألا يحملها الثلث فيأخذه منها محمل الثلث.
قال أشهب: وإن أوصى بتيس من غنمه، فلينظر إلى كل ما يقع عليه اسم تيس منها،ولا يقع ذلك على البهيم والإناث، فينظر إلى عدد ذلك فيكون فيها وحدها شريكًا بواحد من عددها. وأما إن قال: شاة من غنمه، فالتيوس والنعاج والضأن والمعز، والصغير والكبير، يدخل في العدد. ولو قال: كبشًا، لم يدخل في ذلك إلا كبار ذكور الضأن، ولو قال: نعجة، لم تكن إلا في كبار إناث الضأن. فإن قال: بقرة من بقري، دخل فيه ذكور البقر وإناثها. وإن قال: ثور، لم يكن إلا في ذكور الكبار. فإن قال: عجل، لم يكن إلا في ذكور العجول. فإن قال: بقرة من عجولي، كان في الذكور والإناث من العجول. ولو قال: شاة من بهمي، أو ضانية من خرفاني، لم يدخل في ذلك كبارها. وإن قال: أعطوه رأسًا من رقيقي، وما وله رأس واحد تعين، فإن كان له عدة فماتوا أو قتلوا قبل موته انفسخت الوصية. وإن قتلوا بعد موته انتقلت الوصية إلى القيمة. ولو قال: اعتقوا عني رقابًا، فأقلها ثلاثة.